*يحتوي على حرق للأحداث*
«أصبحت السينما الفرنسية عازمة بشكل مفاجئ على كسر كل تابو محظور، أن تسبح في أنهار الأحشاء ودفقات السوائل الجسدية، تملأ كل إطار باللحم، شهي أو مشوه، ومعرض لكل أشكال الاختراق والتشويه والتدني، صور وعناصر كانت يوماً حكراً على أفلام الرعب الدموية، وأفلام الاستغلال، والأفلام الإباحية، هدم وتشريح والتواء، أكل لحوم بشر، وتعذيب للذات صور تتكاثر في بيئات الفن الرفيع في سينما قومية كانت مواطن استفزازها تاريخياً شكلية وسياسية وفلسفية (جودار، كلوزو، ديبور) أو في أكثر الأشكال جموحاً (فرانو، بونويل وفاليريان بوروتشيك ووزلاسكي) مرتبطة بحركة فنية وهي غالباً السريالية»
— لحم ودم: الجنس والعنف في السينما الفرنسية المعاصرة/ جيمس كوانت (1)
تضم السينما الفرنسية بعضاً من أشهر الموجات السينمائية على الإطلاق، الموجة الفرنسية الجديدة Nouvelle Vague مثالاً، ازدهر ذلك التكثيف النظري لمجموعة من المخرجين والأفلام في نهايات الخمسينيات وبداية الستينيات حيث ارتبطت الموجات أو الحركات السينمائية بشكل تطوري وسياسي يحاول تخطي ما قبله، وفي سنوات السينما الأكثر معاصرة صكت موجات جديدة مثل موجة الشكل الفرنسية Cinema Du Look التي يصعب بالضبط إحكام سماتها. لكن انتشرت مؤخراً موجة يرجع تسميتها للناقد جيمس كوانت وهي الموجة المتطرفة الفرنسية الجديدة French New Extremity، كتب كوانت في مجلة «أرتوفورام» ArtForum مقال وقت صدور فيلم «برونو دومانت 29 نخلة» Twentynine Palms في عام 2003، انطلق من الفيلم الذي حوى مشاهد جرافيكية من العنف والجنس، لتحليل ما يشبه موجة فرنسية بدأت مع بداية الألفية، حيث ركز بعض المخرجين ذوي الأسماء الراسخة على ترك الشكل السينمائي الأكثر رسمية وفلسفية والانغماس في عوالم أفلام الرعب من الدرجة الثانية حيث كل ما هو محظور، غير مفلتر وغير مؤسسي، ولحق بهم مخرجون بدأوا من التطرف مباشرة، في أفلام تموضع ما هو متدن داخل سينما فنية لديها فلسفة محددة.
في عام 2024 الفاتر سينمائياً على خلفية وضع عالمي يغلي سياسياً واجتماعياً، من دون نجاحات شعبية كبرى أو نجاحات فنية متفردة، ترقب المهتمين بالسينما فيلم «المادة The Substance»، الفيلم الطويل الثاني لكورالي فارجا، سماه البعض «فيلم العام» فهو فيلم متطرف جداً حد الغثيان، يتحاكى عنه من شاهده باعتباره صدمة سينمائية كبيرة، تحمل ثيمات مجتمعية بجانب كونها متعة شعبية بدائية من العنف والدماء، فاز الفيلم بجائزة السيناريو في مهرجان كان الفرنسي الأكثر برستيجية ضمن الفعاليات السينمائية، وقوبل كذلك بنجاح شعبي وانتشار رقمي.
في جوهره يجمع «المادة» بين شكل أصبح متكرراً في الأفلام «الفنية» في الفترة الأخيرة، فهو يأخذ أكثر السمات شعبوية واستهلاكاً ويزرعها في شكل فني مرتفع، فيقع بين أفلام الدرجة الثانية التي تحوي عنفاً أو جنساً غير مفلتر والأفلام الفنية الجريئة مرتفعة الميزانية.
يدور «المادة» الذي يعمل عنوانه بالإنجليزية «The Substance» بمعنى المادة ومعنى الجوهر، في عالم الشهرة والجمال، عالم لا يسمح فيه للنساء بأن يتقدمن بالعمر، عالم به مدة صلاحية محددة جداً وصارمة للأجساد، يعمل بشكل سريع على استبدال القديم بالجديد ولا يتردد في إلقاء النساء اللاتي قاربن على انتهاء مدة قبولهن اجتماعياً، يقدم «المادة» شخصيته الرئيسية إليزابيث (ديمي مور) بنجمة على رصيف هوليوود، ترسخ لمكانتها ومكانها وتعمل كمساحة لاستعراض صخب وعطن المدينة.
يصبح الاسم والنجمة مجازاً مباشراً لها كنجمة في طور الأفول، تدوسها الأقدام ويغطي اسمها النفايات، تقدم إليزابيث سباركل باعتبارها نجمة هوليوودية لكنها تشتهر بشكل رئيسي ببرنامج ينتمي لشكل الثمانينيات التلفزيوني تقدم به تمرينات أيروبيكس وتمارين صباحية، بشعر طويل أسود وبذلات رياضية لامعة تستعرض رشاقتها، للرياضة والنشاطات الجسدية أكثر من كل نشاط عام آخر عمر افتراضي، هنا تقترن الرياضة بشكل أساسي بالجمال، بالمشهدية والمشاهدة، فبرنامجها يبدو غطاء إنتاجياً يضع امرأة جميلة كحافز لمشاهدة عرض صباحي عن التريض والتمرينات الصحية.
مشهد من The Substance 2024
يقرر منتج البرنامج هارفي استبدال إليزابيث بنجمة أجمل وأصغر في العمر، يقولبه الفيلم في شكل منتج هوليوودي متعطش للصبا والجمال، ويختزله في شكل كاريكاتيري مقزز لرجل يأكل الوجبات البحرية بيديه وينفث فتات الطعام من فمه، رجل جاوز منتصف العمر لكنه يحتقر تقدم العمر النسائي، نتيجة لإحباط وسخط شديدين تشتري إليزابيث مادة تتكون من دورة دقيقة من الحقن سوف تجعلها النسخة الأفضل من ذاتها، يحدث ذلك عن طريق انسلاخ جسدها حرفياً وخروج جسد آخر أصغر وأكثر مثالية في ما يشبه عملية ولادة، تبدأ الأحداث في اتخاذ شكلها عندما يأخذ الجسد الأصغر المتمثل في سو (مارجريت كوالي) زمام المبادرة ويستهلك قواعد المادة التي تنص على أن لكل جسد سبعة أيام ثم يجب التحويل مجدداً، في كل يوم إضافي يأخذه جسد من الآخر يتدهور الجسد المقابل، مما يؤدي إلى نمو متسارع يخرج عن التحكم أو انهيار جسدي غير متوقع.
في عالم الفيلم المجازي الذي يوازي كل شخصية أو حدث بمثله في الواقع فإن هارفي (دينيس كوايد) المنتج هو كاركاتير لهارفي وينستين أو أي منتج هوليوودي آخر، يسلع ويختار، ويستهلك الأجساد، بينما لا تنعكس شخصية إليزابيث على أي شكل معاصر من النجومية مما يجعلها أكثر أمناً من أن تكون مجازاً حتى عن نفسها، تلعب دورها ديمي مور التي تعود بدور كبير بعد خمول استمر سنوات، اشتهرت مور بأدوار جريئة ومغامرة في بدايات الألفية، وهو ما يجعل موازاة حياتها الحقيقية بالفيلم أمراً لا مفر منه، لكن «المادة» ينأى بذاته عن جعلها ممثلة بالشكل التقليدي أو المعاصر ويجعلها عوضاً عن ذلك نجمة شكل من المحتوى التلفزيوني البائد، يجعل ذلك الفيلم يقع في حيز ما بعد واقعي، حيث تحتل وجوه مقدمات التمارين الصباحية اللوحات الإعلانية الكبرى في لوس أنجليس، يجعل ذلك الانفصال النقد المجتمعي المقصود للطبيعة الاستهلاكية للمواد المرئية وللنساء أكثر تحفظاً وأمناً.
النقد المجتمعي ليس هو قوة الفيلم المحركة، فهو نقد عديم الأنياب، متحفظ ومباشر، يجد الفيلم قوته في المتطرف، في غير المكبوح، وفي الانحدار السينمائي نحو أفلام الاستغلال وأفلام الرعب الرخيصة، فيموه الحد الفاصل بين الفني والشعبي، يحاول «المادة» دفع كل أطرافه نحو المستحيل، نحو أقصى ما يمكن الوصول له من التلاعب بالجسد والدماء والأحشاء، تولد أجساد من أجساد، ثم تولد مجدداً مضاعفة التشوه مئات أضعافه، تخترق الأيادي اللحم الطري وتخرج منه أصغر وأجمل، بل ينغمس الفيلم في نفس نقاط نقده المجتمعي للفوبيا من كبر السن فيجعل الأجساد المسنة هي رعبه الحقيقي، الظهور المحنية والرؤوس الحليقة، يخلق شكلاً كاريكاتيرياً آخر من تقدم العمر النسائي تحديداً، فالمثال الحقيقي لشكل تقدم العمر الهوليوودي يكمن في مور نفسها التي تخطت الـ60 بجسد رياضي ووجه جميل.
ديمي مور في The Substance
عندما تخرق سو القواعد تتسبب في تقدم عمر جسد إليزابيث ربما مئات السنين حتى تصل لشكل جروتيسكي ربما يعبر عن مخاوفها الشخصية، تتهشم عظامها وتتقيح جروحها، يتضاعف ذلك بولادة النسخة الثالثة من سو وإليزابيث الوحش اليزاسو، الذي يتكون من هجين لحمي من الأعضاء الجسدية المتراكبة، جسد ساخر من رغبات المنتجين من الرجال المسنين، فهذا الجسد يحوي كل شيء، عدداً مضاعفاً من الأثداء ووجوهاً في أماكن غير الوجوه، يتفكك في الفصل الثالث الشكل التقليدي للجسد نفسه، تصبح الأعضاء وأماكنها التقليدية بلا معنى، ويتحلل الجسد نفسه من مكانه المجتمعي التقليدي ودلالاته الجمالية أو الجنسية.
«يتشكك المرء في وجود دافع أعمق من مجرد رد نرجسي لانهيار الأيديولوجيا في مجتمع عرف تقليدياً بالقطبية السياسية واليقين التنظيري، ربما يكون الغضب الصادق التحرري- سياسياً، اجتماعياً وجنسياً- الذي غذى رؤى أبوكاليبسية مثل سالو أو ويك إند مستحيل حالياً، فتم استبداله بعنف في حقيقته هو شكل متضخم من السلبية»
— لحم ودم: الجنس والعنف في السينما الفرنسية المعاصرة/ جيمس كوانت
يوصف فيلم «المادة» بأنه فيلم رعب نسوي، بشكل رئيسي بسبب الموضوع الذي يتناوله وهو نظرة صناع الترفيه لأجساد النساء المتقدمة في العمر، لكن ما تفعله فارجا منذ فيلمها الأول هو اقتحام مساحات الرجال السينمائية، ودمج الفني بالمنحط أو المتدني، في فيلمها الأول «انتقام» Revenge 2017 تأخذ قوالب أفلام انتقام الاغتصاب وكذلك بصريات الأفلام الضخمة مثل أفلام مايكل باي لكي تقلب سماتها رأساً على عقب، لكن في عملية القلب تلك ينقلب الفيلم مرة أخرى ليصبح جزءاً من المنظومة التي يحاول هدمها.
مشهد من The Substance
لدى فارجا عين تشييئية تهدف لإعادة امتلاك التشييء objectification لجعله نسائياً عوضاً عن رجولي، في «انتقام» تصور جسد بطلتها كما يصور مايكل باي ميجان فوكس في سلسلة المتحولون «Transformers» لكنها تجعلها هي الفاعل وليس المفعول به، تحولها إلى بطلة حركة قادرة على العنف والتدمير، ويصبح الرجال مفرطي الرجولة ضخام الجثث ضحايا لها ولانتقامها الذي لا يعرف الحدود، تسعى فارجا ومخرجات ما اصطلح على تسميته السينما المتطرفة الجديدة على إنهاء احتكار الرجال للعنف أو احتكار السرديات الرجولية للعنف، تصبح الدماء والأشلاء والأسلحة مشاعاً لاستخدام النساء والرجال.
يتركز الشكل الأساسي لقلب احتكار العنف أو احتكار وقوعه من عنصر خارجي على الشخصيات النسائية في توجيه العنف إلى الذات، باستعادة الأهلية على الجسد، من بداية الموجة التي يرجعها البعض لفيلم «أزمات كل يوم» Trouble Every Day 2001 فإن ممارسة النساء للعنف شيء جديد، خصوصاً إذا كان عنفاً مصاحباً لرغبة شبقية يصعب إيقافها، بعد أزمات كل يوم الذي صورت به كلير دينيس فتاة وقعت تحت تجربة علمية جعلتها متعطشة للحم البشري، تكررت ثيمة الكانيباليزم أو أكل لحم البشر والميل إلى تشويه الجسد، في فيلم « In My Skin » 2002 لمارينا دو فان توجه الشخصية الرئيسية عنفها للداخل في عمليات من إعادة خلق الجسد بقطعه وتحويله، يوجد «المادة» على امتداد استعادة الأهلية على الجسد ليس من خلال أكل اللحم أو تحوير الجسد بأدوات حادة بل عن طريق استنساخه وإعادة بنائه.
تعزز ذلك طبيعة الفيلم المنعزلة طبياً، فالعلاج الذي تطلبه اليزابيث لا يحقنها به طبيب أو مؤسسة علمية ما، بل تشتريه بنفسها وحدها عبر ممر مظلم، وتحقن به ذاتها وتتحكم به وتخرق قواعده، بعد ذلك تفقد التحكم عندما تسيطر ذاتها الجديدة على جسدها القديم، لكن حسب الفيلم فإن كل تلك الذوات هي ذات واحدة، لذلك ينطبق عليه توجيه العنف إلى الداخل، ومع انقسام الجسد يتولد صراع داخلي فتتحول صورة الرعب الجسدي من انتهاك الجسد الشخصي إلى صراع خارجي بين جسدين منفصلين، يخفف من حدة تلك الصورة أي صورة إيذاء النفس أو تحويلها وإعادة خلقها عدم التزام الفيلم بمفهومه الخاص، أي إن الكل واحد داخل الجسد، تنفصل الشخصيات حين ولادتها عن جسدها الأصلي وتتخذ هيئة مستقلة وكأنها لا تتشارك العقل نفسه، فيصبح الصراع ذا صيغة رمزية بين الصبا وتقدم العمر، وبين حب الذات وكراهيتها.
في فيلم «المادة» يأخذ مفهوم إشاعة المفاهيم المحتكرة على سينما الصناع من الرجال شكلاً آخر أكثر تجريداً واستلهاماً، فبدلاً من اقتباس مخرجين ذوي سمعة شعبية جماهيرية مثل باي فإن فارجا تقتبس من سينما رجال ذوي سمعة فنية، سينما محكمة ودقيقة، بشكل رئيسي تقتبس فارجا ستانلي كوبريك بصرياً، تنقل جمالياته لسياقات مختلفة، وتستدعي بريان دي بالما في «كاري» واحد من أشهر أفلام الرعب الدائرة حول شخصية نسائية، وتموضع السينما الفنية داخل سينما تجارية من الدرجة الثانية.
يتموه الفاصل بين الاثنين، فتندمج الصور الكوبركية مثل الممر الزمني في أوديسا الفضاء أو أرضية «البريق» الحمراء والشكل الإكلينيكي لإضاءة الصورة والمساحات الداخلية، مع فوضى أشلاء ودماء أفلام الاستغلال، فيصبح الإحكام ملاصق للفوضى، تلوث المساحات والبصريات الرقمية النظيفة والمنمقة لأبعد حد فوضى الأجساد وقدرتها على التحول والتحلل. يضع «المادة» نفسه فيه مساحة حرجة بين الإطار الفني الواعي سينمائياً بمرجعياته والرغبة الرئيسية في خلق تتابع من الصدمات المتتالية ذات المرجعية الفكرية المحددة، وذلك ما يجعله مرتبكاً بين إفلات العنان لانحدار جسدي ودموي ومحاولة إلقاء خطبة طويلة حول الخوف من أجساد النساء.
«المادة» فيلم متطرف، فني وشعبي، يجمع تناقضات عدة داخله، فهو فيلم يتبنى قضية معينة لكنه يهدمها بتصوره البدائي عنها، لكنه فيلم لا يمكن تجاهل نجاحه أو توحد متلقيه مع تيماته النسوية والمجتمعية، وبعيداً عن محاولاته في النقد المجتمعي فإنه يمثل شكلاً بدائياً من الاستمتاع بالصور العنيفة والمخاوف الجوهرية التي تجمع بين الكوميديا والرعب، وينقل المتعة الخفية بمشاهد العنف والدماء ويجعلها عامة مسموحاً بها في العروض السينمائية الجماهيرية وحتى الفنية منها في مهرجانات السينما حول العالم.